الحمد لله معز من أطاع أمره واتقاه، ومذلِّ من خالف أمره وعصاه، أحمده سبحانه وألتجئ إليه فمن اعتصم به كفاه ووقاه، وهداه ونجَّاه.
وأشهد ألا إله إلا الله مالكَ المُلك، ومحيي الموتى، وأشهد أن محمداً رسول الله سيد ولد آدم الذي ما مكَّنه ربه حتى ابتلاه، وناداه وقال له ولأمته: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ }، وقال لهم: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي بطانة وأولياء... صلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه المجاهدين، ومن سار على أثرهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها المسلمون: إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإن الكلمات لتنعقد في اللسان: وشـر سـلاح المرء دمـعٌ يُريقـه إذا الحرب شبَّت نارها بالصوارم
أهذه حال أمة محمد صلى الله عليه وسلَّم؟!
أهكذا يُعامل العدوُ أمة يقارب تعدادها المليار والنصف بل يزيد؟!
أفإن هُنَّا على عدوِّنا، أفنهون على أنفسنا؟!
القادر غافلٌ أو متواطئ؟
والمكلومُ المقهور عاجز وحائر؟!
والمظلومُ المغدور مذنب
والجلاد المجرم رحيم ذو حق
والحكم العادل يُبصر الشعرةَ في عين المظلوم، ويعمى عن الجذع في عين الظالم
الزمان: أواخر الثلث الأول من القرن الخامس عشر.
المكان: أكناف بيت الله الأقصى، في غزة الإباء والشرف.
الحدث: وهن أمة، وعجزُ المليار الذين هم على حقٍ ديناً ومنهجاً وعقيدةً، وسياسة، وقضيةً= عجزُهم عن إيقاف شرذمةٍ قليلةٍ من أجبن الناس، من الذين لا يقاتلون { إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ} إيقافِهم عن ظلمهم، والأخذِ على أيديهم.
قال صلى الله عليه وسلَّم: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) . فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)) . قال قائل: يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) رواه أبو داود.
وإنا والله لا ندري أنحزن على حالنا، وتعلُّقنا في تفريج كرباتنا بعدوِّنا، أم نفرح بما ثبَّت وقوَّى وأعز أهل هذه البقعة الصغيرة من الأرض. هذه الثلة الصابرة المحتسبة، طفلُهم رجل، ورجلُهم أسد، ونساؤُهم مجاهدات. مدرسة من مدارس الصبر (واعلم أن النصر مع الصبر). يا أهل غزة، شكرا لكم أن أبقيتم لنا بقيةً من ماء الوجه نحيا به، يا أهل غزة، أنتم أنتم الصابرون الصامدون الآسون جرح هذه الأمة.
إن اليهود مَن لعنه الله في كتابه على لسان داوود وعيسى ابن مريم بما عصوا وكانوا يعتدون، وهذه المرة عصوا الله بعملهم في يوم السبت، ثم كان هذا العمل والعصيان هو الاعتداء، {بما عصوا وكانوا يعتدون} ألا فلعنة الله عليهم تحيق بهم، ولا تذر منهم في أرض المسلمين بقية!!
فإن كانوا أذلة قليلين، وكان عملهم عمل الملعونين في دينهم قبل أن يكونوا ملعونين في كل دين، فلأي شيء يبقى ويستمر؟ ولأي شيء يُحال بين الناس وبين نُصرة المستضعف المظلوم؟ ولأي شيء يُترك السرطان ليستفحل فإذا ابتلع غزة –وليس بفاعل إن شاء الله- تمهَّد له الطريق إلى بقية الجسد الإسلامي، أفلا يُحسم من أصله، ويُراح العالم من شره.
أيا أحبابي قد والله سمعنا الكثير، من النشرات والتحليلات والتعليقات، وقرأنا الكثير من المقالات والمعالجات، ويبقى أن درهمَ عمل خيرٌ من قنطار كلام. ولا أريد أن أزيد نفسي وأزيدكم على الهم هماً، ولكني أقول راجياً –رحمة الله- معجباً ببطولةِ أهلنا في غزة وحكمتِهم: لا يصيب المؤمن من بلاء -وهو يتقي الله بما استطاع- إلا جعل الله له من تلك البلوى خيراً كثيراً. وإنا لنلمح من وراء هذه النازلة خيراً للفلسطينيين، فما بعد شدة حُلكة الليل إلا ضياء الفجر. ونلمح منها خيراً للأمة التي يربيها الله، ويصنعها بعد هروبِها عنه وغفلتِها= يصنعها ويربيها لأمرٍ يريده. وأنتم ترون وتسمعون من أنَّات الصادقين، ودعوات الداعين، وتعاطف وانفعال الكثيرين ما ينتقل بالأمة من مرحلة الغفلة التي عاشتها طويلاً إلى دوائر اليقظة، وما بعده إلا انطلاقتَها إن شاء الله تعالى.اقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه