كتبه وحرّره: أبو يزيد سليم بن صفية المدني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله, وبعد:
اعلم أخي هداك الله للحق والصواب, أنّ التكرار من أسس الفصاحة ولوازمها, وفي هذا ردّ على من لا فهم له حينما يطعن في التكرار الوارد في القرآن
قال السيوطي رحمه الله: "التكرير وهو أبلغ من التأكيد، وهو من محاسن الفصاحة خلافاً لبعض من غلط" (الإتقان في علوم القرآن 3 / 280).
أولاً: التكرار الوارد في القرآن على أنواع:
1- تكرار اللفظ والمعنى.
- كتكرار كلمات في سياق الآية، مثل قوله تعالى {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ}
- أو تكرار في نفس السورة, كتكرير قوله تعالى { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } في سورة الرحمن.
2- ومنها: التكرار في المعنى دون اللفظ .
وذلك مثل قصص الأنبياء, ووصف الجنة ونعيمها, والنار وأهوالها, وغير ذلك.
ثانياً: فوائد التكرار في القرآن:
التكرار في القرآن ليس خلواً من فائدة, وإلا كان عبثاً ينـزّه القرآن عن ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وليس في القرآن تكرار محض ، بل لابد من فوائد في كل خطاب" (مجموع الفتاوى 14 / 408 ) .
وقد نقل لنا الإمام السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن ( 3 / 281) جملة من فوائد التكرار في القرآن, فقال رحمه الله: "وله (أي: التكرار في القرآن - فوائد منها:
1- التقرير: وقد قيل: " الكلام إذا تكرَّر تقرَّر "، وقد نبه تعالى على السبب الذي لأجله كرر الأقاصيص والإنذار في القرآن بقوله {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا}.
2- التأكيد.
3- زيادة التنبيه على ما ينفي التهمة ليكمل تلقي الكلام بالقبول، ومنه {وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ . يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} ، فإنه كرر فيه النداء لذلك .
4- ومنها إذا طال الكلام وخشي تناسي الأول أعيد ثانيها تطرية له وتجديداً لعهده ، ومنه {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا}، {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا}
5- التعظيم والتهويل نحو { الْحَاقَّةُ . مَا الْحَاقَّةُ } ، { الْقَارِعَةُ . مَا الْقَارِعَةُ}.
ثالثاً: التكرار في فواتح سورة القارعة.
ويمكن توضيح بعض أسرار التكرار في القرآن, من خلال فواتح سورة القارعة, وهي قوله تعالى: { الْقَارِعَةُ . مَا الْقَارِعَةُ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}.
فقد تكرّر لفظ القارعة في الآيات الثلاث, فما السرّ في ذلك, من الناحيتين الإعرابية, والبيانية؟؟.
أولاً: إعراب الآيات الثلاث:
الْقَارِعَةُ: مبتدأ.
ما القارعة: مَا: اسم استفهام خبر مقدم، و (الْقَارِعَةُ) مبتدأ مؤخر - على الأصح- وجملة: (مَا الْقَارِعَةُ) خبر المبتدأ الأول.
وما أدراك: ما: مبتدأ.
أدراك: فعل يتعدى إلى مفعولين الكاف المفعول الأول, والجملة في موضع المفعول الثاني.
وأدراك وما اتصل به خبر عن ما الأولى.
ما القارعة: ما: مبتدأ, والقارعة خبره, والجملة في موضع نصب بأدراك وفي أدراك ضمير فاعل يعود على ما الأولى.
ثانياً: الناحية البلاغية والبيانية.
1- افتتحت السورة الكريمة بلفظ " الْقَارِعَةُ "، مفردة بلا خبر ولا صفة موصولة, - لأنّ خبرها كما تقدّم في الإعراب تأخر إلى الآية الثانية- وهذا من شأنه أن يبعث فزعاً في القلوب, لأن السكوت بعد اللفظ المهول يوجب الفزع.
وهذا المسلك إنما قصد به التنبيه على عظمة شأن القارعة, أي: القيامة.
2- استعاض الله جل وعلا في قوله: {ما القارعة} عن الاسم المضمر, وتقديره: هي, فالأصل فيه:{ الْقَارِعَةُ . مَا هِيَ}
فوضع الاسم الظاهر موضع المضمَر تفخيمًا لشأنها، وتفظيعًا لهولها. ونحو ذلك قولك: زيد، ما زيد ؟ جعلته لانقطاع قرينه، وعدم نظيره.
وهذا مسلك ثان لبيان عظم وهول هذا اليوم العظيم.
3- تقدّم معنا أنّ جملة: {ما القارعة} في محل خبر, المبتدأ الأول: القارعة – أي في أول السورة- , ولكن الأصل أن تتضمن الجملة الخبرية رابطاً يعود على المبتدأ, ولا رابط هنا.
والنكتة في ذلك: أإعادة لفظ المبتدأ -وهو: القارعة- أغنت عن الضمير الرابط بين المبتدأ وجملة الخبر.
وهذا مسلك ثالث في التعظيم والتنويه, حيث استعاض عن الرابط بإعادة الاسم الظاهر, وهو القارعة, تنويهاً لشأنها.
4- أنّ في قوله تعالى: {مَا الْقَارِعَةُ} استفهام, يراد به التهويل والتعظيم؛ لأن الأمر العظيم من شأنه أن يستفهم عنه، فصار التعظيم والتهويل مع الاستفهام متلازمين.
5- الوجه الصحيح في إعراب: {ما القارعة} كما تقدّم معنا, أن ما الاستفهامية خبر مقدّم, والقارعة مبتدأ؛ لأن محط الفائدة هو الخبر لا المبتدأ.
فتقدّمت ما الاستفهامية هنا, تنويهاً بهذا الأمر العظيم المبهم حقيقته وكنهه
6- أنه أعيد الاستفهام, بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} زيادة في التهويل، ومبالغة في التعظيم.
وجعل والخطاب فيه لغير معين، والمعنى: أيُّ شيء أدراك أيها السامع: ما القارعة؟ ولك أن تجعل هذا الاستفهام إنكاريًا. أي: لا دراية لك بكنهها، ومدى عظمها وشدتها. يعني: أنها في العظم والشدة، بحيث لا يبلغه دراية أحد، ولا وهمه.
وبهذا يتبيّن لنا أوجه الإعجاز في هذا التكرار.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
منقـــــــــــــول
تح يآآآتي